الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)} {إِنَّ الذين ءامَنُواْ} في محل التعليل للحث على الإيمان المنفهم من التخيير كأنه قيل وللذين آمنوا، ولعل تغيير السبك للإيذان بكمال تنافي حالي الفريقين أي إن الذين آمنوا بالحق الذي يوحي إليك {وَعَمِلُواْ الصالحات} حسبما بين في تضاعيفه. {أَنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} وقرأ عيسى الثقفي {لاَ نُضِيعُ} بالتضعيف، وعغى القراءتين الجملة خبر إن الثانية وخبر إن الأولى الثانية بما في حيزها والرابط ضمير محذوف تقديره من أحسن عملاً منهم، ولا يرد أنه يقتضي أن منهم من أحسن ومنهم من لم يحسن لأن ذلك على تقدير كون من تبعيضية وليس بمتعين لجواز كونها ببيانية ولو سلم فلا بأس به فإن الإحسان زيادة الإخلاص الوارد في حديث الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، لكن يبقى على هذا حكم من لم يحسن بهذا المعنى منهم أو الرابط الاسم الظاهر الذي هو المبتدأ في المعنى على ما ذهب إليه الأخفش من جعله رابطاً فإن من أحسن عملاً في الحقيقة هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات. واعترض بأنه يأباه تنكير {عَمَلاً} لأنه للتقليل. وأجيب بأنه غير متعين لذلك إذ النكرة قد تعم في الإثبات ومقام المدح شاهد صدق أو الرابط عموم من بناء على أن العموم قد يكون رابطاً كما في زيد نعم الرجل على قول وفيه مناقشة ظاهرة. ولعل الأولى كون الخبر جملة قوله تعالى:
{أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)} {أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} وجملة {أَنَاْ} [الكهف: 30] الخ معترضة، ونحو ذها من الاعتراض كما قال ابن عطية وغيره قوله: إن الخليفة إن الله ألبسه *** سربال ملك به ترجى الخواتيم وأنت تعلم أن الاعتراض فيه غير متعين أيضاً، وعلى الاحتمال السابق يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة لبيان الأجر ويجتمل أن تكون خبراً بعد خبر على مذهب من لا يشترط في تعدد الأخبار كونها في معنى خبر واحد وهو الحق أي أولئك المنعوتون بالنعوت الجليلة لهم جنات إقامة على أن العدن بمعنى الإقامة والاستقرار يقال عدن بالمكان إذا قام فيه واستقر ومنه المعدن لاستقرار الجواهر فيه. وعن ابن مسعود عدن جنة من الجنان وهي بطنانها، ووجه إضافة الجنان إليها بانها لسعتها كأن كل ناحية منها جنة {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانهار} وهم في الغرفات آمنون {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} من الأولى للابتداء والثانية للبيان، والجار والمجرور في موضع صفة لأساور، وهذا ما اختاره الزمخشري وغيره. وجوز أبو البقاء في الأولى أن تكون زائدة في المفعول على قول الأخفش، ويدل عليه قوله تعالى: {وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ} [الإنسان: 21] وأن تكون بيانية أي شيئاً أو حلياً من أساور. وجوز غيره فيها أن تكون تبعيضية واقعة موقع المفعول كما جوز هو وغيره ذلك في الثانية، وجوز فيها أيضاً أن تتعلق بيحلون وهو كما ترى، والأساور جمع اسورة جمع سوار بالكسر والضم وهو ما في الذراع من الحلى وهو عربي، وقال الراغب: معرب دستواره، وقيل جمع أسوار جمع سوار وأصله أساوير فخفف بحذف يائه فهو على القولين جمع الجمع، ولم يجعلوه من أول الأمر جمع سوار لما رأوا أن فعالاً لا يجمع على أفاعل في القياس. وعن عمرو بن العلاء أن الواحد اسوار، وأنشد ابن الأنباري: والله لولا صبية صغار *** كأنما وجوههم أقمار تضمهم من العتيك دار *** أخاف أن يصيبهم أقتار أو لاطم ليس له اسوار *** لما رآني ملك جبار ببابه ما وضح النهار *** وفي القاموس السوار ككتاب وغراب القلب كالأسوار والجمع أسورة وأساور وأساورة وسور وسؤور وهو موافق لما نقل عن ابن العلاء. ونقل ذلك أيضاً عن قطرب. وأبي عبيدة، ونكرت لتعظيم حسنها من الإحاطة، وقد أخرج ابن مردويه عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لو أن رجلاً من أهل الجنة اطلع فبدت أساوره لطمس ضوؤه ضوء الشمس كما تطمس ضوء النجوم} وأخرج الطبراني في الأوسط. والبيهقي في البعث عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أدنى أهل الجنة حلية عدلت حليته بحلية أهل الدنيا جميعاً لكان ما يحليه الله تعالى به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعاً» وأخرج عبد بن حميد. وابن المنذر عن عكرمة قال: «إن أهل الجنة يحلون أسورة من ذهب ولؤلؤ وفضة هي أخف عليهم من كل شيء إنما هي نور» وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الضوء» وأخرج أبو الشيخ. وغيره عن كعب الأحبار قال: «إن الله تعالى ملكاً وفي رواية في الجنة ملك لو شئت أن اسميه أسميته يصوغ حلى أهل الجنة من يوم خلق إلى أن تقوم الساعة ولو أن حلياً منها أخرج لرد شعاع الشمس» والسؤال بأن لبس الرجال الأسوار غيب في الدنيا فكيف يحلونها في الآخرة مندفع بأن كونه عيباً إنما هو بين قوم لم يعتادوه لا مطلقاً ولا أظنك في مرية من أن الشيء قد يكون عيباً بين قوم ولا يكون عيباً بين آخرين، وليس فيما نحن فيه أمر عقلي يحكم بكونه عيباً في كل وقت وفي كل مكان وبين كل قوم، وإن التزمت إن فيه ذلك فقد حليت نفسك بحلية الجهل وخرجت من ربقة العقل. هذا وقرأ أبان عن عاصم {مِنْ أَسْوِرَةٌ} بحذف ألف وزيادة هاء وهو أحد لسوار كما سمعت {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} لأن الخضرة أحسن الألوان والنفس تنبسط بها أكثر من غيرها، وروي في أثر أنها تزيد في ضوء البصر، وقيل: ثلاثة مذهبة للحزن. الماء والخضرة والوجه الحسن. والظاهر أن لباسهم غير منحصر فيما ذكر إذ لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وأخرج ابن أبي حتم عن سليم بن عامر أن الرجل يكسى في الساعة الواحدة سبعين ثوباً وأن أدناها مثل شقيق النعمان، وقيل يحتمل الانحصار ولهم فيها ما تشتهي الأنفس لا يأباه لجواز أنهم لايشتهون ولا تلذ أعينهم سوى ذلك من الألوان، والتنكير لتعريف أنها لا يكاد يوصف حسنها. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن كعب قال: لو أن ثوباً من ثياب أهل الجنة نشر اليوم في الدنيا لصعق من ينظر إليه وما حملته أبصارهم. وقرأ أبان عن عاصم. وابن أبي حماد عن أبي بكر {وَيَلْبَسُونَ} بكسر الباء {مِن سُندُسٍ} قال الجواليقي: هو رقيق الديباج بالفارسية فهو معرب، وفي القاموس هو ضرب من البزيون أو ضرب من رقيق الديباج معرب بلا خلاف، وقال الليث: لم يختلف أهل اللغة والمفسرون في أنه معرب، وأنت تعلم أن فيه خلاف الشافعي عليه الرحمة، والقول بأنه ليس من أهل اللغة والمفسرين في النفس منه شيء، وقال شيدله: هو رقيق الديباج بالهندية، وواحدة على ما نقل عن ثعلب سندسة. وزعم بعضم: أن أصله سندس وكان هذا النوع من الديباج يجلب من السند فأبدلت الياء سيناً كما فعل في سادي فقيل سادس، وهو كلام لا يروج إلا على سندي أو هندي. ويحكى أن جماعة من أهل الهند من بلد يقال له بروج بالجيم الفارسية وكانوا يتكلمون بلة تسمى سنسكريت جاؤوا إلى الاسكندر الثاني بهدية من جملتها هذا الديباج ولم يكن رآه فقال: ما هذا؟ فقالوا: سندون بالنون في آخره فغيرته الروم إلى سندوس ثم العرب إلى سندس فهو معرب قطعاً من ذلك اللفظ الذي أطلقته أولئك الجماعة عليه، لكن لا جزم من أنه اسم له في الأصل بلغتهم أو اسم للبلدة المجلوب هو منها أطلق عليه كما في أسماء كثير من الأمتعة اليوم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. {وَإِسْتَبْرَقٍ} أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة. وعكرمة أنه غليظ الديباج، وقال ابن بحر: هو ديباج منسوج بذهب وفي القاموس هو الديباج الغليظ أو ديباج يعمل بالذهب أو ثياب حرير صفاق نحو الديباج أو قدة حمراء كأنه قطع الأوتار اه، والذي عليه الأكثرون من المفسرين واللغويين الأول، وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك معرب استبره وهي كلمة عجمية ومعناها الغليظ، والمشهور أنه يقال للغليظ بالفارسية استبر بلا هاء، وقال ابن قتيبة: هو رومي عرب وأصله استبره فابدلوا الهاء قافاً، ووقع في شعر المرقش قال: تراهن يلبسن المشاعر مرة *** واستبرق الديباج طوراً لباسها وقال ابن دريد: هو سرياني عرب وذكر من أصله ما ذكروا، وقيل: أصله استفرح بحرف بعد التاء بين الفاء والباء الموحدة، وادعى بعضهم أن الاستبرق الديباج الغليظ الحسن في اللغة العربية والفارسية ففيه توافق اللغتين، ونقل عن الأزهري أنه استصوب هذا، ويجمع على أباريق ويصغر كما في القاموس. وغيره على أبيرق، وقرأ ابن محيصن {وَإِسْتَبْرَقٍ} بوصل الهمزة وفتح القاف حيث وقع جعله كام يقتضيه ظاهر كلام ابن خالويه فعلا ماضياً على وزن استفعل من البريق إلا إن استفعل فيه موافق للمجرد الذي هو برق، وظاهر كلام الاهوازي في الاقناع أنه وحده قرأ كذلك وجعله اسماً ممنوعاً من الصرف ولم يجعله فعلاً ماضياً. وقال صاحب اللوامح: قرأ ابن محيصن {وَإِسْتَبْرَقٍ} بوصل الهمزة في جميع القرآن مع التنوين فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفاً على غير قياس، ويجوز أنه جعله كلمة عربية من برق الثوب يبرق بريقاً إذا تلألأ بجدته ونضارته فيكون وزنه استفعل من ذلك فلما سمى به عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة ومعاملة المتمكن من الأسماء في الصرف والتنوين، وأكثر التفاسير على أنه عربي وليس بمستعرب انتهى، ولا يخفى أنه مخالف للنقلين السابقين، ويمكن أن يقال: إن لابن محيصن قراءتين فيه الصرف والمنع منه فنقل بعض قراءة وبعض آخر أخرى لكن ذكر ابن جنى أن قراءة فتح القاف سهو أو كالسهو، قال أبو حيان: وإنما قال ذلك لأن جعله اسماً ومنعه من الصرف لا يجوز أنه غير علم فتكون سهواً وقد أمكن جعله فعلاً ماضياً فلا تكون سهواً انتهى. وفي الجمع بين السندس الاستبرق أشعار ما بأن لأولئك القوم في الجنة ما يشتهون، ونكراً لتعظيم شأنهما وكيف لا وهما وراء ما يشاهد من سندس الدنيا واستبرقها بل وما يتخيل من ذلك، وقد أخرج البيهقي عن أبي الخير مرثد بن عبد الله قال: في الجنة شجرة تنبت السندس منه تكون ثياب أهل الجنة. وأخرج الطيالسي. والبخاري في التاريخ. والنسائي. وغيرهم عن ابن عمر قال: قال رجل يا رسول الله أخبرنا عن ثياب أهل الجنة أخلقا تخلق أم نسجا تنسج؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل يتشقق عنها ثمر الجنة، وظاهره أنها من سندس كانت أو من استبرق كذلك، وقدمت التحلية على اللباس لأن الحلى في النفس أعظم وإلى القلب أحب وفي القيمة أغلى. وفي العين أحلى، وبنى فعله للمفعول إشعاراً بأنهم لا يتعاطون ذلك بأنفسهم وإنما يفعله الخدم كما قال الشاعر: غرائز في كن وصون ونعمة *** يحلين ياقوتاً وشذراً مفقراً وكذلك سائر الملوك في الدنيا يلبسهم التيجان ونحوها من العلامات المرصعة بالجواهر خدمهم، وأسند اللبس إليهم لأن الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه خصوصاً إذا كان فيه ستر العورة، وقيل: بنى الأول للمفعول والثاني للفاعل إشارة إلى أن التحلية تفضل من الله تعالى واللبس استحقاقهم. وتعقب بأن فيه نزغة اعتزالية ويدفع بالعناية {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الارائك} جمع أريكة كما قال غير واحد وهو السرير في الحجلة فإن لم يكن فيها فلا يسمى أريكة. وأخرج ذلك البيهقي عن ابن عباس، وقال الراغب: الأريكة حجلة على سرير وتسميتها بذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك وهو شجر معروف أو لكونها مكاناً للإقامة من قولهم أرك بالمكان أروكا، وأصل الأروك الإقامة على رعى الإراك ثم تجوز به في غيره من الإقامات، وروي تفسيرها بذلك عن عكرمة. وقال الزجاج: الارائك الفرش في الحجال؛ والظاهر أنها على سائر الأقوال عربية، وحكى ابن الجوزي في فنون الافنان أنها الشرر بالحبشية، وأيا ما كان فالكلام على ما قاله بعض المحققين كناية عن تنعمهم وترفههم فإن الاتكاء على الأرائك شأن المتنعمين المترفهين، والآثار ناطقة بأنهم يتكؤون ويتنعمون، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليتكىء المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول منه ولا يمله يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه» وأخرج ابن المنذر. وجماعة عن ابن عباس أن على الأرائك فرشا منضودة في السماء مقدار فرسخ. وقرأ ابن محيصن {علرائك} بنقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وإدغام لام {على} فيها فيحذف ألف {على} لتوهم سكون لام التعريف، ومثله قول الشاعر: فما أصبحت علرض نفسي برية *** يريد على الأرض. {نِعْمَ الثواب} ذلك الذي وعدوا به من الجنة ونعيمها {وَحَسُنَتْ} أي الأرائك أو الجنات {مُرْتَفَقًا} متكئاً، وقد تقدم آنفاً الكلام فيه.
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)} {واضرب لَهُم} للمؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي والكفرة الذين طلبوا طردهم {مَثَلاً رَّجُلَيْنِ} مفعولان لا ضرب ثانيهما أولهما لأنه المحتاج إلى التفصيل والبيان قاله بعضهم، وقد مر تحقيق هذا المقام فتذكر، والمراد بالرجلين إما رجلان مقدران على ما قيل وضرب المثل لا يقتضي وجودهما وإما رجلان موجودان وهو المعول عليه، فقيل هما أخوان من بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه فرطوس، وقيل اسمه قطفير والآخر مؤمن اسمه يهوذا في قول ابن عباس. وقال مقاتل: اسمه يمليخا، وعن ابن عباس أنهما ابنا ملك من بني إسرائيل أنفق أحدهما ماله في سبيل الله تعالى وكفر الآخر واشتغل بزينة الدنيا وتنمية ماله، وروي أنهما كانا حدادين كسبا مالاً؛ وروي أنهما ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطراها فاشترى الكافر أرضاً بألف فقال المؤمن: اللهم أنا أشتري منك أرضاً في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه داراً بألف فقال: اللهم إني أشتري منك داراً في الجنة بألف فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال: اللهم إني جعلت ألفاً صداقاً للحور فتصدق به ثم اشترى أخوه خدماً ومتاعاً بألف فقال: اللهم إني أشتري منك الولدان المخلدين بألف فتصدق به ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله، وقيل: هما أخوان من بني مخزوم كافر هو الأسود بن الأسد ومؤمن هو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد، والمراد ضربهما مثلاً للفريقين المؤمنين والكافرين لا من حيث أحوالهما المستفادة مما ذكر آنفاً من أن للمؤمنين في الآخرة كذا وللكافرين فيها كذا بل من حيث عصيان الكفرة مع تقلبهم في نعم الله تعالى وطاعة المؤمنين مع مكابدتهم مشاق الفقر أي اضرب لهم مثلاً من حيثية العصيان مع النعمة والطاعة مع الفقر حال رجلين {جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا} وهو الكافر {جَنَّتَيْنِ} بستانين لم يعين سبحانه مكانهما إذ لا يتعلق بتعيينه كبير فائدة. وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه عجائب البلاد أن بحيرة تينس كانت هاتين الجنتين فجرى ما جرى ففرقهما الله تعالى في ليلة واحدة، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم منه قول آخر، والجملة بتمامها تفسير للمثل فلا موضع لها من الإعراب، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لرجلين فموضعها النصب {مّنْ أعناب} من كروم متنوعة فالكلام على ما قيل إما على تقدير مضاف وإما الأعناب فيه مجاز عن الكروم وهي أشجار العنب، والمفهوم من ظاهر كلام الراغب أن العنب مشترك بين الثمرة والكرم وعليه فيراد الكروم من غير حاجة إلى التقدير أو ارتكاب المجاز، والداعي إلى إرادة ذلك أن الجنة لا تكون من ثمر بل من شجر {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أي جعلنا النخل محيطة بهما مطيفة بحفافيهما أي جانبيهما مؤزراً بها كرومهما يقال حفه القوم إذا طافوا به وحففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله فتزيده الباء مفعولاً آخر كقولك غشيته به {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا} وسطهما {زَرْعًا} لتكونا جامعتين للأقوات والفواكه متواصلتي العمارة على الهيئة الرائقة والوضع الأنيق.
{كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)} {كِلْتَا الجنتين أتَتْ أُكُلُهَا} ثمرها وبلغ مبلغاً صالحاً للأكل، و{كِلْتَا} اسم مفرد اللفظ مثنى المعنى عند البصريين وهو المذهب المشهور ومثنى لفظاً ومعنى عند البغداديين وتاؤه منقلبة عن واو عند سيبويه فاصلة كلوى فالألف فيه للتأنيث. ويشكل على هذا إعرابه بالحروف بشرطه، ويجاب بما أجيب به عن الإشكال في الأسماء الخمسة. وعند الجرمي الألف لام منقلبة عن أصلها والتاء زائدة للتأنيث. ويرد عليه أنه لا يعرف فعتل وأن التاء لا تقع حشواً ولا بعد ساكن صحيح؛ وعلى المشهور يجوز في ضميره مراعاة لفظه ومراعاة معناه وقد روعي الأول هنا والثاني فيما بعد. وفي مصحف عبد الله {كَلاَّ الجنتين اتِى} بصيغة التذكير لأن تأنيث الجنتين مجازي ثم قرأ {اتَتْ} فأنث لأنه ضمير مؤنث، ولا فرق بين حقيقية ومجازية فالتركيب نظير قولك: طلع الشمس وأشرقت وقال: إن عبد الله قرأ {كُلٌّ الجنتين أتى أَكَلَهُ} فذكر وأعاد الضمير على كل. {وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ} أي لم تنقص من أكلها {شَيْئاً} من النقص على خلاف ما يعهد في سائر البساتين فإن الثمار غالباً تكثر في عام وتقل في عام وكذا بعض الأشجار تأتي بالثمار في بعض الأعوام دون بعض، وجوز أن يكون {تَظْلِمِ} متعدياً و{شَيْئاً} مفعوله والمآل واحد {وَفَجَّرْنَا خلالهما} أي فيما بين كلتا الجنتين {نَهَراً} ليدوم شربهما ويزيد بهاؤهما، قال يحيى بن أبي عمرو الشيباني: وهذا النهر هو المسمى بنهر أبي فرطس وهو على ما قال ابن أبي حاتم نهر مشهور في الرملة، وقيل المعنى فجرنا فيما بين كل من الجنتين نهراً على حدة فيكون هناك نهران على هذا ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، وتشديد فجر قيل للمبالغة في سعة التفجير، وقال الفراء: لأن النهر ممتد فكأنه أنهار. وقرأ الأعمش. وسلام. ويعقوب. وعيسى بن عمر {فجرنا} بالتخفيف على الأصل، وأقر أبو السمال. والعياض ابن غزوان. وطلحة بن سليمان {خلالهما نَهَراً} بسكون الهاء وهو لغة جارية فيه وفي نظائره، ولعل تأخير ذكر التفجير عن ذكر الإيتاء مع أن الترتيب الخارجي على العكس للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل وتفجير النهر في تكميل محاسن الجنتين كما في قصة البقرة ونحوها ولو عكس لانفهم أن المجموع خصلة واحدة بعضها مترتب على بعض فإن إيتاء الأكل متفرع على السقي عادة، وفيه إيماء إلى أن إيتاء الأكل لا يتوقف على السقي كقوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء} [النور: 35] قاله شيخ الإسلام:
{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)} {وَكَانَ لَهُ} أي للأحد المذكور وهو صاحب الجنتين {ثَمَرٌ} أنواع المال كما في «القاموس». وغيره ويقال: ثمر إذا تمول، وحمله على حمل الشجر كما فعل أبو حيان. وغيره غير مناسب للنظم. وقرأ ابن عباس. ومجاهد. وابن عامر. وحمزة. والكسائي. وابن كثير. ونافع. وقراء المدينة {ثَمَرٌ} بضم الثاء والميم، وكذا في {بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] الآتي وهو جمع ثمار بكسر الثاء جمع ثمر بفتحتين فهو جمع الجمع ومعناه على نحو ما تقدم أي أموال كثيرة من الذهب والفضة والحيوان وغيرها، وبذلك فسره ابن عباس. وقتادة وغيرهما، وقال مجاهد. يراد به الذهب والفضة خاصة، وقرأ الأعمش. وأبو رجاء. وأبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم تخفيفاً هنا وفيما بعد والمعنى على ما سمعت، وقرأ أبو رجاء في رواية {ثَمَرٌ} بالفتح والسكون. وفي مصحف أبي وحمل على التفسير {وَءاتَيْنَاهُ خَيْراً كَثِيراً} {فَقَالَ لصاحبه} المؤمن، والمراد بالصاحب المعنى اللغوي فلا ينافي هذا العنوان القول بأنهما كانا أخوين خلافاً لمن وهم {وَهُوَ} أي القائل {يحاوره} أي يحاور صاحبه فالجملة في موضع الحال من القائل، والمحاورة مراجعة الكلام من حار إذا رجع أي يراجعه الكلام في إنكاره البعث وإشراكه بالله تعالى، وجوز أن تكون الجملة حالاً من صاحبه فضمير {هُوَ} عائد عليه وضمير صاحبه عائد على القائل أي والصاحب المؤمن يراجع بالوعظ والدعوة إلى الله عز وجل ذلك الكافر القائل له {أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} حشماً وأعواناً، وقيل: أولاداً ذكوراً، وروي ذلك عن قتادة. ومقاتل، وأيد بمقابلته بأقل منك مالاً وولداً وتخصيص الذكور لأنهم الذين ينفرون معه لمصالحه ومعاونته، وقيل: عشيرة ومن شأنهم أنهم ينفرون مع من هو منهم، واستدل بذلك على أنه لم يكن أخاه لأن العشيرة مشتركة بينهما وملتزم الاخوة لا يفسر بذلك، ونصب {مالاف ونفراً} على التمييز وهو على ما قيل محول عن المبتدأ، والظاهر أن المراد من أفعل التفضيل معناه الحقيقي وحينئذٍ يرد بذلك ما في بعض الروايات من أن الأخ المؤمن بقي بعد التصدق بماله فقيراً محتاجاً فسأل أخاه الكافر ولم يعطه ووبخه على التصدق.
{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)} {وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} أي كل ما هو جنة له يتمتع بها بناءاً على أن الإضافة للاستغراق والعموم فتفيد ما أفادته التثنية مع زيادة وهي الإشارة إلى أنه لا جنة له غير ذلك ولا حظ له في الجنة التي وعد المتقون وإلى هذا ذهب الزمخشري وهو معنى لطيف دق تصوره على أبي حيان فتعقبه بما تعقبه. واختار أن الإفراد لأن الدخول لا يمكن أن يكون في الجنتين معاً في وقت واحد وإنما يكون في واحدة واحدة وهو خال عما أشير إليه من النكتة. وكذا ما قيل إن الإفراد لاتصال إحداهما بالأخرى. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال في قوله تعالى: {جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ} [الكهف: 32] الخ الجنة البستان فكان له بستان واحد وجدار واحد وكان بينهما نهر فلذلك كان جنتين وسماه سبحانه جنة من قبل الجدار المحيط به وهو كما ترى، والذي يدل عليه السياق والمحاورة أن المراد ودخل جنته مع صاحبه {وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ} جملة حالية أي وهو ضار لنفسه بكفره حيث عرضها للهلاك وعرض نعمتها للزوال أو واضع الشيء في غير موضعه حيث كان اللائق به الشكر والتواضع لا ما حكى عنه. {قَالَ} استئناف مبني على سؤال نشأ من ذكر دخول جنته حال ظلمه لنفسه كأنه قيل فماذا قال إذ ذاك؟ فقيل قال: {مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ} أي تهلك وتفنى يقال باديبيد بيدا وبيودا وبيدودة إذا هلك {هذه} أي الجنة {أَبَدًا} أي طول الحياة فالمراد بالتأبيد طول المكث لا معناه المتبادر، وقيل يجوز أن يكون أراد ذلك لأنه لجهله وإنكاره قيام الساعة ظن عدم فناء نوعها وإن فنى كل شخص من أشجارها نحو ما يقوله الفلاسفة القائلون بقدم العالم في الحركات الفكلية وليس بشيء، وقيل ما قصد إلا أن هذه الجنة المشاهدة بشخصها لا تفنى على ما يقوله الفلاسفة على المشهور في الأفلاك أنفسها وكأن حب الدنيا والعجب بها غشي على عقله فقال ذلك وإلا فهو مما لا يقوله عاقل وهو مما لا يرتضيه فاضل، وقيل {هذه} إشارة إلى الأجرام العلوية والأجسام السفلية من السموات والأرض وأنواع المخلوقات أو إشارة إلى الدنيا والمآل واحد والظاهر ما تقدم، وأياً ما كان فلعل هذا القول كان منه بمقابلة موعظة صاحبه وتذكيره بفناء جنتيه ونهيه عن الاغترار بهما وأمره بتحصيل الصالحات الباقيات، ولعله خوفه أيضاً بالساعة فقال له:
{وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)} ولعله خوفه أيضاً بالساعة فقال له: {وَمَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} أي كائنة فيما سيأتي فالقيام الذي هو من صفات الأجسام مجاز عن الكون والتحقق لكنه جار في العرف مجرى الحقيقة {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبّى} بالبعث عند قيامها كما زعمت {لاجِدَنَّ} حينئذٍ {خَيْراً مّنْهَا} أي من هذه الجنة. وقرأ ابن الزبير. وزيد بن علي. وأبو بحرية. وأبو جعفر. وشيبة. وابن محيصن. وحميد. وابن مناذر ونافع. وابن كثير. وابن عامر {مِنْهُمَا} بضمير التثنية وكذا في مصاحف مكة والمدينة والشام أي من الجنتين {مُنْقَلَباً} أي مرجعاً وعاقبة لفناء الأولى وبقاء الأخرى على زعمك، وهو تمييز محول من المبتدأ على ما نص عليه أبو حيان، ومدار هذا الطمع واليمين الفاجرة اعتقاد أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا لاستحقاقه الذاتي وكرامته عليه سبحانه وهذا كقوله تعالى حكاية {وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 50] ولم يدر أن ذلك استدراج، وكأنه لسبق ما يشق عليه فراقه وهي الجنة التي ظن أنها لا تبيد جاء هنا {رُّدِدتُّ} ولعدمه فيما سيأتي بعد إن شاء الله تعالى من آية حم المذكورة جاء {رُّجّعْتُ} [فصلت: 50] فليتأمل.
{قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)} {قَالَ لَهُ صاحبه} استئناف كما سبق {وَهُوَ يحاوره} جملة حالية كالسابقة، وفائدتها التنبيه من أول الأمر على أن ما يتلوها كلام معتنى بشأنه مسوق للمحاورة. وقرأ أبي وحمل ذلك على التفسير {وَهُوَ} {يحاوره أَكَفَرْتَ بالذى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} أي في ضمن خلق أصلك منه وهو آدم عليه السلام لما أن خلق كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه السلام إذ لم تكن فطرته الشريفة مقصورة على نفسه بل كانت أنموذجاً منطوياً على فطرة سائر أفراد الجنس انطواءً إجمالياً مستتبعاً لجريان آثارها على الكل فإسناد الخلق من تراب إلى ذلك الكافر حقيقة باعتبار أنه مادة أصله، وكون ذلك مبنياً على صحة قياس المساواة خيال واه، وقيل خلقك منه لأنه أصل مادتك إذ ماء الرجل يتولد من أغذية راجعة إلى التراب فالإسناد مجاز من إسناد ما للسبب إلى المسبب فتدبر. {ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ} هي مادتك القريبة فالمخلوق واحد والمبدأ متعدد، ونقل أنه ما من نطفة قدر الله تعالى أن يخلق منها بشراً إلا وملك موكل بها يلقى فيها قليلاً من تراب ثم يخلق الله تعالى منها ما شاء من ذكر أو أنثى. وتعقبه في «البحر» بأنه يحتاج إلى ثبوت صحته، وأنا أقول: غالب ظني أني وقفت على تصحيحه لكن في تخريج الآية عليه كلام لا يخفى {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} عدلك وكملك إنساناً ذكراً؛ وأصل معنى التسوية جعل الشيء سواء أي مستوياً كما فيما {تسوى بِهِمُ الارض} [النساء: 42] ثم إنه يستعمل تارة بمعنى الخلق والإيجاد كما في قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] فإذا قرن بالخلق والإيجاد كما هنا فالمراد به الخلق على أتم حال وأعدله حسبما تقتضيه الحكمة بدون إفراط ولا تفريط، ونصب {رَجُلاً} على ما قال أبو حيان على الحال وهو محوج إلى التأويل. وقال الحوفي: نصب على أنه مفعول ثان لسوى، والمراد ثم جعلك رجلاً، وفيه على ما قيل تذكير بنعمة الرجولية أي جعلك ذكراً ولم يجعلك أنثى. والظاهر أن نسبة الكفر بالله تعالى إليه لشكه في البعث وقوله: {مَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} [الكهف: 36] والشاك في البعث كما في «الكشف» كافر من أوجه الشك في قدرته تعالى وفي أخباره سبحانه الصدق وفي حكمته ألا ترى إلى قوله عز وجل {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] وهذا هو الذي يقتضيه السياق لأن قوله: {أَكَفَرْتَ} الخ وقع رداً لقوله: {مَا أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} [الكهف: 36] ولذلك رتب الإنكار بخلقه من تراب ثم من نطفة الملوح بدليل البعث وعليه أكثر المفسرين ونوقشوا فيه. وقال بعضهم: الظاهر إنه كان مشركاً كما يدل عليه قول صاحبه تعريضاً به {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا} [الكهف: 38] وقوله: {ياليتنى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا} [الكهف: 42] وليس في قوله: {لئن رُّدِدتُّ إلى رَبّى} [الكهف: 36] ما ينافيه لأنه على زعم صاحبه كما مر مع أن الإقرار بالربوبية لا ينافي الإشراك فعبدة الأصنام مقرون بها وهم مشركون فالمراد بقوله: {أَكَفَرْتَ} أأشركت اه، وسيأتي إن شاء الله تعالى بعض ما يتعلق به. وقرأ ثابت البناني وحمل ذلك على التفسير كنظائره المتقدمة ويلك أكفرت.
{لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)} {لَكُنَّا هُوَ الله رَبّى} أصله لكن أنا وقد قرأ به أبي. والحسن، وحكى ابن عطية ذلك عن ابن مسعود فنقل حركة همزة أنا إلى نون لكن فحذفت الهمزة ثم حذفت الحركة ثم ادغمت النون في النون، وقيل حذفت الهمزة مع حركتها ثم أدغم أحد المثلين في الآخر وهو أقرب مسافة إلا أن الحذف المذكور على خلاف القياس، وقد جاء الحذف والإدغام في قوله: وترمينني بالطرف أي أنت مذنب *** وتقلينني لكن إياك لا أقلي فإنه أراد لكن أنا لا أقليك، وهو أولى من جعلهم التقدير لكنه إياك على حذف ضمير الشأن، وأبعد منه جعل الأصل لكنني إياك على حذف اسم لكن كما في قوله: فلو كنت ضبياً عرفت قرابتي *** ولكن زنجي عظيم المشافر أي لكنك مع نون الوقاية، وبإثبات الألف آخراً في الوقف وحذفها في الوصل كما هو الأصل في أنا وقفاً ووصلاً قرأ الكوفيون. وأبو عمرو. وابن كثير. ونافع في رواية ورش. وقالون، وأبدلها هاء في الوقف أبو عمرو في رواية فقال: {لكنه} ذكره ابن خالويه، وقال ابن عطية: روى هارون عن أبي عمرو {لَّكِنَّ هُوَ الله رَبّى} بضمير لحق لكن. وقرأ ابن عامر. وزيد بن علي. والحسن. والزهري بإثبات الألف وقفاً ووصلاً وهو رواية عن نافع. ويعقوب. وأبي عمرو. وورش. وأبي جعفر. وأبي بحرية، وجاء ذلك على لغة بني تميم فإنهم يثبتون ألف أنا في الأصل اختياراً وأما غيرهم فيثبتها فيه اضطراراً، وقال بعضهم: إن إثباتها في الوصل غير فصيح لكنه حسن هنا لمشابهة أنا بعد حذف همزته لضميرنا المتصل ولأن الألف جعل عوضاً عن الهمزة المحذوفة فيه. وقيل أثبتت إجراء للوصل مجرى الوقف وفي إثباتها دفع اللبس بلكن المشددة، ومن إثباتها وصلاً قول الشاعر: أنا شيخ العشيرة فاعرفوني *** حميداً قد تذريت السناما وفي رواية الهاشمي عن أبي جعفر حذفها وصلاً ووقفاً، وروي ذلك أيضاً عن أبي عبلة. وأبي حيوة. وأبي بحرية، وقرأ {لكننا} بحذف الهمزة وتخفيف النونين، و{المهاد لَكِنِ} في جميع هذه القراءات حرف استدراك لا عمل له وأنا مبتدأ أول و{هُوَ} ضمير الشأن مبتدأ ثان و{الله رَبّى} مبتدأ وخبر، والجملة خبر ضمير الشأن وهي غنية عن الرابط وجملة ضمير الشأن وخبره خبر المبتدأ الأول والرابط ضمير المتكلم المضاف إليه، والتركيب نظير قولك: هند هو زيد ضاربها، وجوز أن يكون {هُوَ} مبتدأ ثانياً والاسم الجليل بدلاً منه و{رَبّى} خبره والجملة خبر المبتدأ الأول والرابط الياء أيضاً. وفي «البحر» أن {هُوَ} ضمير الشأن وثم قول محذوف أي لكن أنا أقول هو الله ربي، ويجوز أن يعود على {الذى خَلَقَكَ} [الكهف: 37] أي لكن أنا أقول الذي خلقك الله ربي فخبره الاسم الجليل و{رَبّى} نعت أو عطف بيان أو بدل انتهى، ثم جوز عدم تقدير القول واقتصر على جعل {هُوَ} ضمير الشأن حينئذٍ حسبما سمعت، ولا يخفى أن احتمال تقدير القول بعيد في هذه القراءة ولعل احتمال كون الاسم الجليل بدلاً أقرب معنى من كونه خبراً وعود الضمير على الذي خلقك، وجوز أبو علي كون ن ضمير الجماعة كالتي في خرجنا وضربنا ووقع الإدغام لاجتماع المثلين إلا أنه أريد بها ضمير المعظم نفسه فوحد {رَبّى} على المعنى ولو اتبع اللفظ لقيل ربنا ولا يخفى ما فيه من البعد، وقال ابن عطية في الآية: يجوز أن تكون لكن هي العاملة من أخوات إن واسمها محذوف وحذفه فصيح إذا دل عليه الكلام والتقدير لكن قولي هو الله ربي، لكن ذلك إنما يتم لو قرىء بحذف الألف وقفاً ووصلاً وأنا لا أعرف أحداً قرأ بذلك انتهى، وأنت قد عرفت من قرأ به، وقد ذكر غيرهم قرؤا أيضاً أبو القاسم يوسف بن علي الهذلي في كتابه الكامل في القراءات لكن لا أظنك تستحسن التخريج على ذلك. وقرأ عيسى الثقفي {لَّكِنَّ هُوَ الله} بسكون نون لكن، وحكاه ابن خالويه عن ابن مسعود. والأهوازي عن الحسن وءعرابه ظاهر جداف. وقرىء «لكن أنا هو الله لا إله إلا هو ربي» ويعلم إعرابه مما مر، وخرج أبو حيان قراءة أبي عمرو على رواية هارون على أن يكون «هو» تأكيداً لضمير النصب في «لكنه» وجعله عائداً على {الذي خلقك} [الكهف: 37] ثم قال: ويجوز أن يكون فصلاً لوقوعه بين معرفتين، ولا يجوز أن يكون ضمير شأن لأنه لا عائد حينئذٍ على اسم لك من الجملة الواقعة خبراً انتهى، ويا ليت شعري ما الذي منعه من تجويز أن يكون ضمير لكنه للشأن ويكون {هُوَ} مبتدأ عائداً على {الذى خَلَقَكَ} [الكهف: 37] والاسم الجليل خبره و{رَبّى} نعتاً أو عطف بيان أو بدل والجملة خبر ضمير الشأن المنصوب بلكن أو يكون {هُوَ} مبتدأ والاسم الجليل بدلاً منه و{رَبّى} خبراً والجملة خبر الضمير. هذا وقوله: {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا} عطف على إحدى الجملتين والاستدراك على {أَكَفَرْتَ} [الكهف: 37] وملخص المعنى لمكان الاستفهام الذي هو للتقرير على سبيل الإنكار أنت كافر بالله تعالى لكني مؤمن موحد. وللتغاير الظاهر بين الجملتين وقعت لكن موقعها فقد قالوا: إنها تقع بين كلامين متغايرين نحو زيد حاضر لكن عمرو غائب، وإلى كون المعنى ما ذكر ذهب الزمخشري وغيره، وذكر في «الكشف» أن فيه إشارة إلى أن الكفر بالله تعالى يقابله الإيمان والتوحيد فجاز أن يستدرك بكل منهما وبهما معاً أي كما هنا فءن الإيمان مفاد أنا هو الله ربي والتوحيد مفاد {لا أُشْرِكُ بِرَبّى أَحَدًا} وأنت تعلم أيضاً أن الشرك كثيراً ما يطلق على مطلق الكفر وجعلوا منه قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] وأنه يمكن أن يكون الغرض من مجموع الكلام إثبات الإيمان على الوجه الأكيد، ولعل شرك صاحبه الذي عرض به في الجملة الثانية كما صرح به غير واحد بهذا المعنى. وقيل الشرك فيه بالمعنى المتبادر وإثباته لصاحبه تعريضاً باعتبار أنه لما أنكر البعث فقد عجز الباري جل جلاله ومن عجزه سبحانه وتعالى فقد سواه بخلقه تعالى في العجز وهو شرك، وقيل باعتبار أنه لما اغتر بدنياه وزعم الاستحقاق الذاتي وأضاف ما أضاف لنفسه كان كأنه أشرك فعرض به المؤمن بما عرض فكأنه قال: لكن أنا مؤمن ولا أرى الغنى والفقر إلا من الله تعالى يفقر من يشاء ويغني من يشاء ولا أرى الاستحقاق الذاتي على خلاف ما أنت عليه؛ والإنصاف أن كلاً من القولين تكلف، وقيل في الكلام تعريض بشرك صاحبه ولا يلزم أن يكون مدلولاً عليه بكلامه السابق بل يكفيه ثبوت كونه مشركاً في نفس الأمر وفيما بعد ما هو ظاهر فيه فتأمل، ثم اعلم أن ما تضمنته الآية ذكر جليل، وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أسماء بنت عميس قالت: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن عند الكرب الله ربي لا أشرك به شيئاً.
{وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)} {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ} حض على القول وتوبيخ على تركه، وتقديم الظرف على المحضض عليه للإيذان بتحتم القول في آن الدخول من غير ريث للقصر، وجاز تقديمه لذلك وجعله فاصلاً بين {لَوْلاَ} وفعلها لتوسعهم في الظروف أي هلا قلت عندما دخلتها {مَا شَاء الله} أي الأمر ما شاء الله أو ما شاء الله تعالى كائن على أن ما موصولة مرفوعة المحل إما على أنها خبر مبتدأ محذوف أو على أنها مبتدأ محذوف الخبر. ويجوز أن تكون شرطية في محل نصب بشاء والجواب محذوف أي أي شيء شاء الله تعالى كان، وأياً ما كان فالمراد تحضيضه على الاعتراف بأن جنته وما فيها بمشيئة الله تعالى إن شاء أبقاها وإن شاء أبادها، ودلالة الجملة على العموم الداخل فيه ما ذكر دخولاً أولياً على التقدير الأول لأن تعريف الأمر للاستغراق، والجملة على هذا تفيد الحصر وأما على غيره فقيل لأن ما شرطية أو موصولة وهي في معنى الشرط والشرط وما في معناه يفيد توقف وجود الجزاء على ما في حيزه فيفيد عدمه عند عدمه فيكون المعنى ما شاء كان وإن لم يشأ لم يكن، ولا غبار على ذلك عند من يقول بمفهوم الشرط، وقدر بعضهم في الثاني من احتمالي الموصولة ما شاء الله هو الكائن حتى تفيد الجملة ما ذكر وليس بشيء كما لا يخفى. وزعم القفال من المعتزلة أن التقدير هذا ما شاءه الله تعالى والإشارة إلى ما في الجنة من الثمار ونحوها، وهذا كقول الإنسان إذا نظر إلى كتاب مثلاً: هذا خط زيد، ومراده نفي دلالة الآية على العموم ليسلم له مذهب الاعتزال، وكذلك فعل الكعبي. والجبائي حيث قالا: الآية خاصة فيما تولى الله تعالى فعله ولا تشمل ما هو من فعل العباد ولا يمتنع أن يحصل في سلطانه سبحانه ما لا يريد كما يحصل فيه ما ينهى عنه، ولا يخفى على من له ذوق سليم وذهن مستقيم أن المنساق إلى الفهم العموم وكم للمعتزلة عدول عن ذلك {لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} من مقول القول أيضاً أي هلا قلت ذلك اعترافاً بعجزك وإقراراً بأن ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها إنما هو بمعونته تعالى وإقداره جل جلاله، وقد تضمنت هذه الآية ذكراً جليلاً أيضاً، فقد أخرج أحمد عن أبي هريرة قال: «قال لي نبي الله صلى الله عليه وسلم ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟ قلت: نعم قال. أن تقول لا قوة إلا بالله قال عمرو بن ميمون: قلت لأبي هريرة: لا حول ولا قوة إلا بالله فقال: لا إنها في سورة الكهف ولولا إذ دخلت» الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال: «إن من أفضل الدعاء قول الرجل ما شاء الله»، وأخرج أبو يعلى. وابن مردويه. والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أنعم الله تعالى على عبد نعمة في أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله إلا دفع الله تعالى عنه كل آفة حتى تأتيه منيته وقرأ لولا إذ دخلت " الخ. وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أنس قال: من رأى شيئاً من ماله فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يصب ذلك المال آفة أبداً وقرأ الآية، وأخرجه البيهقي في الشعب عن أنس مرفوعاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن مطرف قال: كان مالك إذا دخل بيته يقول: ما شاء الله قلت لمالك: لم تقول هذا؟ قال: ألا تسمع الله تعالى يقول: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء الله} ونقل عن ابن العربي أن مالكاً يستدل بالآية على استحباب ما تضمنته من الذكر لكل من دخل منزله. وأخرج سعيد بن منصور. وابن أبي حاتم. والبيهقي في الشعب عن عروة أنه كان إذا رأى من ماله شيئاً يعجبه أو دخل حائطاً من حيطانه قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله ويتأول قول الله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ} الآية، ويفهم من بعض الروايات استحباب قول ذلك عند رؤية ما يعجب مطلقاً سواء كان له أو لغيره وإنه إذا قال ذلك لم تصبه عين الإعجاب {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا} الخ {أَنَاْ} توكيد للضمير المنصوب على المفعولية في {ترني} وقد أقيم ضمير الرفع مقام ضمير النصب، والرؤية إن كانت علمية فأقل مفعول ثان وإن كانت بصرية فهو حال من المفعول، ويجوز أن يكون {الجن أَنَاْ} فصلاً وحينئذٍ يتعين أن تكون الرؤية علمية لأن الفصل إنما يقع بين مبتدأ وخبر في الحال أو في الأصل. وقرأ عيسى بن عمر {أَقُلْ} بالرفع فيكون {أَنَاْ} مبتدأ و{أَقُلْ} خبره والجملة في موضع المفعول الثاني على الأول من احتمالي الرؤية أو الحال على الثاني منهما و{مَالاً وَوَلَدًا} تمييز على القراءتين وما فيهما من الاحتمال، وقوله:
{فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)} {فعسى رَبّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ} قائم مقام جواب الشرط أي إن ترن كذلك فلا بأس عسى ربي الخ، وقال كثير: هو جواب الشرط، والمعنى إن ترني أفقر منك فأنا أتوقع من صنيع الله تعالى أن يقلب ما بي وما بك من الفقر والغنى فيرزقني لإيماني جنة خيراً من جنتك ويسلبك بكفرك نعمته ويخرب جنتك، وقيد بعضهم هذا الإيتاء بقوله: في الآخرة، وقال آخر: في الدنيا أو في الآخرة، وظاهر ما ذكر أنه في الدنيا كالإرسال في قوله: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السماء} أي عذاباً كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. وأخرج الطستي عنه أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: {حُسْبَاناً} فقال: ناراً وأنشد له قول حسان: بقية معشر صبت عليهم *** شآبيب من الحسبان شهب وأخرج ذلك ابن أبي شيبة. وابن أبي حاتم عن الضحاك أيضاً، وقال الزمخشري: هو مصدر كالبطلان والغفران بمعنى الحساب والمراد به المحسوب والمقدر أي مقدراً قدره الله تعالى وحسبه وهو الحكم بتخريبها، والظاهر أن إطلاقه على الحكم المذكور مجاز. والزجاج جعل الحسبان بمعنى الحساب أيضاً إلا أنه قدر مضافاً أي عذاب حساب وهو حساب ما كسبت يداه، ولا يخفى أنه يجوز أن يراد من الحسبان بهذا المعنى العذاب مجازاً فلا يحتاج إلى تقدير مضاف. وظاهر عبارة القاموس وكذا ما روى أولاً عن ابن عباس أن إطلاق الحسبان على العذاب حقيقة، ويمكن على ما قيل أن يكون إطلاقه على النار باعتبار أنها من العذاب أو من المقدر، ونقل الزمخشري أن {حُسْبَاناً} جمع حسبانة وهي المرماة أي ما يرمي به كالسهم والصاعقة وأريد بها هنا الصواعق، وقيل أعم من ذلك أن يرسل عليها مرامي من عذابه إما برداً وإما حجارة وإما غيرهما مما يشاء {فَتُصْبِحُ} لذلك {صَعِيداً} أي أرضاً {زَلَقًا} ليس فيها نبات قاله الحسن وأخرجه ابن أبي حاتم عن السدي؛ قيل وأصل معنى الزلق الزلل في المشي لوحل ونحوه لكن لما كان ذلكم فيما لا يكون فيه نبت ونحوه مما يمنع منه تجوز به أو كنى عنه، وعبر بالمصدر عن المزلقة مبالغة، وقيل الزلق من زلق رأسه بمعنى حلقه والكلام على التشبيه أي فتصبح أرضاً ملساء ليس فيها شجر ولا نبات كالرأس الذي حلق وفيه بعد، وقيل المراد بالزلق المزلقة بالمعنى الحقيقي الظاهر، والمعنى فتصبح أرضاً لا نبات فيها ولا يثبت فيها قدم، وحاصله فتصبح مسلوبة المنافع حتى منفعة المشي عليها فتكون وحلاً لا تنبت ولا يثبت عليها قدم، وظاهر صنيع أبي حيان اختياره، وقال مجاهد: أي فتصبح رملاً هائلاً
{أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)} {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} أي غائراً في الأرض، والتعبير بالمصدر للمبالغة نظير ما مر. {فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ} أي للماء الغائر {طَلَبًا} تحركاً وعملاً في رده وإخراجه، والمراد نفي استطاعة الوصول إليه فعبر عنه بنفي الطلب إشارة إلى أنه غير ممكن والعاقل لا يطلب مثله، وقيل ضمير {لَهُ} للماء مطلقاً لا للماء المخصوص أي فلن ستطيع لماء لها بدل ذلك الماء الغائر طلباً، وهو الذي يقتضيه كلام الماوردي إلا أنه خلاف الظاهر. والظاهر أن {يُصْبِحَ} عطف على {تصبح} [الكهف: 40] وحينئذ لا بد أن يراد بالحسبان ما يصلح ترتب الأمرين عليه عادة كالحكم الإلهي بالتخريب إذ ليس كل آفة سماوية يترتب عليها إصباح الجنة صعيداً زلقاً يترتب عليها إصباح مائها غوراً. وجوز أن يكون العطف على {يُرْسِلُ} [الكهف: 40] وحينئذ يجوز أن يراد بالحبسان أي معنى كان من المعاني السابقة، وعلى هذا يكون المؤمن قد ترجى هلاك جنة صاحبه الكافر إما بآفة سماوية أو بآفة أرضية وهو غور مائها فيتلف كل ما فيها من الشجر والزرع لكنه لم يصرح بما يترتب على الغور من الضرر والخراب، ولعل ذلك لظهوره والاكتفاء بالإشارة إليه بقوله {فَلَنْ} الخ. وتعقب بأنه لا يخفى أنه لا فساد في هذا العطف لا لفظاً ولا معنى إلا أنه كان الظاهر أن يقال: أو يجعل ماءها غوراً أو نحو ذلك مما فيه إسناد الفعل إلى الله تعالى ولا يظهر للعدول إلى ما في النظم الكريم وجه فتأمل، ثم أن أكثر العلماء على أن قوله {إِن تَرَنِ} [الكهف: 39] الخ في مقابلة قول الكافر {أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً} [الكهف: 34] الخ وكأنه عنوا المقابلة في الجملة لا المقابلة التامة أما إذا لم يتحد المراد بالنفر والولد فظاهر، وأما إذا اتحد بأن فسر النفر بالولد فلأن هناك أمرين أكثرية واعزية ولم يذكر هنا إلا مقابل أحدهما وهو الأقلية المنسوبة في المعنى إلى المال والولد، نعم قيل: إن أقلية الولد قد تستلزم الأذلية والأكثرية قد تستلزم الأعزية كما يشاهد في عرب البادية. هذا وكان الظاهر أن يتعرض في الجزاء لأمر الولد كما تعرض لأمر المال بأن يقال وعسى أن يؤتيني خيراً من ولدك ويصيبهم ببلاء فيصبحوا هلكى أو نحو ذلك الكافر وأنه يكفي في نكايته وإغاظته تلف جنته وإعطاء احبه المؤمن خيراً منها. وقيل: إنما لم يتعرض لذلك لما فيه من ترجي هلاك من لم يصدر منه مكالمة ومحاورة ولم ينقل عنه مقاومة ومفاخرة لمجرد إغاظة كافر حاور وكاثر وفاخر وتركه أفضل للكامل وأكمل للفاضل، والدعاء على الكفرة وذراريهم الصادر من بعض الأنبياء عليهم السلام ليس من قبيل هذا الترجي كما لا يخفى على المتأمل؛ وحيث أراد ترك هذا الترجي ترك ترجي الولد لنفسه تبعاً له أو لكونه غير مهم له، وقيل: إنه ترجاه في قوله: {خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ} [الكهف: 40] لأن المراد شيئاً خيراً من جنتك والنكرة قد تعم بمعونة المقام فيندرج الولد وليس بشيء. وقيل: أراد ما هو الظاهر أي جنة خيراً من جنتك إلا أن الخيرية لا تتم من دون الولد إذ لا تكمل لذة بالمال لمن لا ولد له فترجى جنة خير من تلك الجن متضمن لترجى ولد خير من أولئك الولد ولم يترج هلاك ولده ليكون بقاؤهم بعد هلاك جنته حملاً عليه، ولا يخفى أنه لا يتبادر إلى الذهن من خيرية الجنة الجنة إلا خيريتها فيما يعود إلى كونها جنة من كثرة الأشجار وزيادة الثمار وغزارة مياه الأنهار ونحو ذلك، وفي قوله: ليكون الخ منع ظاهر، وقيل: لم يترك الولد اكتفاءاً بما عنده منهم فإن كثرة الأولاد ليس مما يرغب فيه الكاملون وفيه نظر، وقيل: إنه لم يقرن ترجي إيتاء الولد مع ترجي إيتاء الجنة لأن ذلك الإيتاء المترجي في الآخرة وهي ليست محلاً لايتاء الولد لانقطاع التولد هناك، ولا يخفى أن هذا بعد تسليم أنه لا يؤتي الولد لمن شاءه في الآخرة ليس بشيء، وقيل: يمكن أن يكون ترجي الولد في قوله: {خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ} [الكهف: 40] بناءاً على أنه أراد من جنته جميع ما متع به من الدنيا وتكون الضمائر بعدها عائدة عليها بمعنى البستان على سبيل الاستخدام وهو كما ترى فتدبر، والله تعالى أعلم بأسرار كتابه وأخبر. وقرأت فرقة {غؤوراً} بضم الغين وهمزة بعدها وواو بعدهما.
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)} {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} أهلك أمواله المعهودة من جنتيه وما فيهما، وهو مأخوذ من إحاطة العدو وهي استدارته به من جميع جوانبه استعملت في الاستيلاء والغلبة ثم استعملت في كل هلاك، وذكر الخفاجي أن في الكلام استعارة تمثيلية شبه إهلاك جنتيه بمافيهما بإهلاك قوم حاط بهم عدو وأوقع بهم بحيث لم ينج أحد منهم، ويحتمل أن تكون الاستعارة تبعية، وبعض يجوز كونها تمثيلية تبعية انتهى. وجعل ذلك من باب الكناية أظهر؛ والعطف على مقدر كأنه قيل: فوقع بعض ما ترجى وأحيط الخ وحذف لدلالة السابق والسياق عليه، واستظهر أن الإهلاك كان ليلاً لقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ} ويحتمل أن تكون أصبح بمعنى صار فلا تدل على تقييد الخبر بالصباح، ويجري هذان الأمران في {تصبح} [الكهف: 40] و{يصبح} [الكهف: 41] السابقين، ومعنى تقليب الكفين على ما استظهره أبو حيان أن يبدي بطن كل منهما ثم يعوج يده حتى يبدو ظهر كل يفعل ذلك مراراً، وقال غير واحد: هو أن يضع باطن إحداهما على ظهر الأخرى ثم يعكس الأمر ويكرر ذلك، وأياً ما كان فهو كناية عن الندم والتحسر وليس ذلك من قولهم: قلبت الأمر ظهراً لبطن كما في قول عمرو بن ربيعة: وضربنا الحديث ظهراً لبطن *** وأتينا من أمرنا ما اشتهينا فإن ذلك مجاز عن الانتقال من بعض الأحاديث إلى بعض، ولكونه كناية عن الندم عدي بعلي في قوله تعالى: {عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} فالجار والمجرور ظرف لغو متعلق بيقلب كأنه قيل فأصبح يندم على ما أنفق، ومنه يعلم أنه يجوز في الكناية أن تعدى بصلة المعنى الحقيقي كما في قولهم: بنى عليها وبصلة المعنى الكنائي كما هنا فيجوز بنى بها ويكون القول بنه غلط غلط. ويجوز أن يكون الجار والمجرور ظرفاً مستقراً متعلقة خاص وهو حال من ضمير {يُقَلّبُ} أي متحسراً على ما أنفق وهو نظراً إلى المعنى الكنائي حال مؤكدة على ما قيل لأن التحسر والندم بمعنى، وقال بعضهم: إن التحسر الحزن وهو أخص من الندم فليراجع، وأياً ما كان فلا تضمين في الآية كما توهم. وقرىء {تَقَلُّبُ} أي تتقلب، ولا يخفى عليك أمر الجار والمجرور على هذا، وما إما مصدرية أي على إنفاقه في عمارتها، وإما موصولة أي على الذي أنفقه في عمارتها من المال، ويقدر على هذا مضاف إلى الموصول من الأفعال الاختيارية إذا كان متعلق الجار {بالابصار يُقَلّبُ} مراداً منه يندم لأن الندم إنما يكون على الأفعال الاختيارية، ويعلم من هذا وجه تخصيص الندم على ما أنفق بالذكر دون هلالك الجنة، وقيل: لعل التخصيص لذلك ولأن ما أنفق في عمارتها كان ما يمكن صيانته عن طوارق الحدثان وقد صرفه إلى مصالحها رجاء أن يتمتع بها أكثر مما يتمتع به وكان يرى أنه لا تنالها أيدي الردى ولذلك قال: {مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً} [الكهف: 35] فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاك ندم على ما صنع بناء على الزعم الفاسد من إنفاق ما يمكن إدخاره في مثل هذا الشيء السريع الزوال انتهى، والظاهر أن إهلاكها واستئصال نباتها وأشجارها كان دفعياً بآفة سماوية ولم يكن تدريجياً بإذهاب ما به النماء وهو الماء، فقد قال الخفاجي: إن الآية تدل على وقوع استئصال نباتها وأشجارها عاجلاً بآفة سماوية صريحاً لقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ} بالفاء التعقيبية والتحسر إنما يكون لما وقع بغتة فتأمل {وَهِىَ} أي الجنة من الأعناب المحفوفة بنخل {خَاوِيَةٍ} أي ساقطة، وأصل الخواء كما قيل الخلاء يقال خوى بطنه من الطعام يخوي خوى وخواء إذا خلا. وفي «القاموس» خوت الدار تهدمت وخوت وخويت خياً وخوياً وخواء وخواسة خلت من أهلها، وأريد السقوط هنا لتعلق قوله تعالى: {على عُرُوشِهَا} بذلك، والعروش جمع عشر وهو هنا ما يصنع من الأعمدة لتوضع عليه الكرم، وسقوط الجنة على العروش لسقوطها قبلها، ولعل ذلك لأنه قد أصاب الجنة من العذاب ما جعلها صعيداً زلقاً لا يثبت فيها قائم، ولعل تخصيص حال الكروم بالذكر دون النخل والزرع إما لأنها العمدة وهما من متمماتها وإما لأن ذكر هلاكها على ماقيل مغنى عن ذكر هلاك الباقي لأنها حيث هلكت وهي مسندة بعروشها فهلاك ما عداها بالطريق الأولى وإما لأن الانفاق في عمارتها أكثر، ثم هذه الجملة تبعد ما روى من أن الله تعالى أرسل عليها ناراً فأحرقتها وغار ماؤها إلا أن يراد منها مطلق الخراب، وحينئذ يجوز أن يراد من {هِىَ} الجنة بجميع ما اشتملت عليه {وَيَقُولُ} عطف على {يُقَلّبُ} وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون حالاً من الضمير المستتر فيه بتقدير وهو يقول لأن المضارع المثبت لا يقترن بالواو الحالية إلا شذوذاً. {وَيَقُولُ ياليتنى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّى أَحَدًا} كأنه تذكر موعظة أخيه وعلم أنه إنما أتى من قبل شركه فتمنى لو لم يكن مشركاً فلم يصبه ما أصابه، قيل ويحتمل أن يكون توبة من الشرك وندماً عليه فيكون تجديداً للايمان لأن ندمه على شرخ فيما مضى يشعء بأنه آمن في الحال فكأنه قال: آمنت بالله تعالى الآن وليت ذلك كان أولاً، لكن لا يخفى أن مجرد الندم على الكفر لا يكون إيماناً وإن كان الندم على المعصية قد يكون توبة إذا عزم على أن لا يعود وكان الندم عليها من حيث كونها معصية كما صرح به في المواقف، وعلى فرض صحة قياسه بها لم يتحقق هنا من الكافر ندم عليه من حيث هو كفر بل بسبب هلاك جنتيه، والآية فيما بعد ظاهرة أيضاً في أنه لم يتب عما كفر به وهو إنكار البعد، والقول بأنه إنما لم تقبل توبته عن ذلك لأنها كانت عند مشاهدة البأس والايمان إذ ذاك غير مقبول غير مقبول إذ غاية ما في الباب أنه إيمان بعد مشاهدة إهلاك ماله وليس في ذلك سلب الاختيار الذي هو مناط التكليف لا سيما إذا كان ذلك الإهلاك للإنذار، نعم إذا قيل إن هذا حكاية لما يقوله الكافر يوم القيامة كما ذهب إليه بعض المفسرين كان وجه عدم القبول ظاهراً إذ لا ينفع تجديد الايمان هناك بالاتفاق.
{وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)} {وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ} وقرأ الأخوان. ومجاهد. وابن وثاب. والأعمش. وطلحة. وأيوب. وخلف. وأبو عبيد. وابن سعدان. وابن عيسى الأصبهاني. وابن جرير {يَكُنِ} بالياء التحتية لأن المرفوع به أعني قوله تعالى: {فِئَةٌ} غير حقيق التأنيث والفعل مقدم عليه وقد فصل بينهما بالمنصوب، وقد روعي في قوله سبحانه {يَنصُرُونَهُ} المعنى فاتي بضمير الجمع. وقرأ ابن أبي عبلة {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ} مراعاة للفظ فقط، والمراد من النصرة لازمها وهو القدرة عليها أي لم تكن له فئة تقدر على نصره إما بدفع الهلاك قبل وقوعه أبو برد المهلك بعينه على القول بجواز إعادة المعدوم بعينه أو برد مثله على القول بعدم جواز ذلك {واتخذوا مِن دُونِ الله} فإنه سبحانه وتعالى القادر على نصره وحده، وارتكاب المجاز لأنه لو أبقى ذلك على ظاهره لاقتضى نصرة الله تعالى إياه لأنه إذا قيل: لا ينصر زيداً أحد دون بكر فهم منه نصرة بكر له في العرف وليس ذلك بمراد بل المراد ما سمعت، وحاصله لا يقدرون على نصره إلا الله تعالى القدير {وَمَا كَانَ} في نفسه {مُنْتَصِراً} ممتنعاً بقوته عن انتقام الله تعالى منه
{هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)} {هُنَالِكَ} أي في ذلك المقام وتلك الحال التي وقع فيها الإهلاك {الولاية لِلَّهِ الحق} أي النصرة له تعالى وحده لا يقدر عليها أحد فالجملة تقرير وتأكيد لقوله تعالى: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ} [الكهف: 43] الخ، أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة كما نصر سبحانه بمافعل بالكافر أخاه المؤمن فالولاية بمعنى النصرة على الوجهين إلا أنها على الأول مطلقة أو مقيدة بالمضطر ومن وقع به الهلاك وعلى هذا مقيدة بغير المضطر وهم المؤمنون، ويعضد أن المراد نصرتهم قوله تعالى: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} أي عاقبه لأوليائه، ووجه ذلك أن الآية ختمت بحال الأولياء فيناسب أن يكون ابتداؤها كذلك. وقرأ الأخوان. والأعمش. وابن وثاب. وشيبة. وابن غرزوان عن طلحة. وخلف. وابن سعدان. وابن عيسى الأصبهاني. وابن جرير {الولاية} بكسر الواو وهي الولاية بالفتح بمعنى واحد عند بعض أهل اللغة كالوكالة والوكالة والوصاية والوصاية، وقال الزمخشري: هي بالفتح النصرة والتولي بالكسر السلطان والملك أي هنالك السلطان له عز وجل لا يغلب ولا يمتنع منه ولا يعبد غيره كقوله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [العنكبوت: 65] فتكون الجملة تنبيهاً على أن قوله: {ياليتنى لَمْ أُشْرِكْ} [الكهف: 42] الخ كان عن اضطرار وجزع عمادهاه ولم يكن عن ندم وتوبة، وحكى عن أبي عمرو. والأصمعي أنهما قالا: إن كسر الواو لحن هنا لأن فعالة إنما تجيء فيما كان صنعة ومعنى متقلداً كالكتابة والإمارة والخلافة وليس هنا تولي أمر إنما هي الولاية بالفتح بمعنى الدين بالكسر ولا يعول على ذلك. واستظهر أبو حيان كون {هُنَالِكَ} إشارة إلى الدار الآخرة أي في تلك الدار الولاية لله الحق ويناسب قوله تعالى: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} ويكون كقوله تعالى: {لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] والظاهر على جميع ذلك أن الوقف على {مُنْتَصِراً} [الكهف: 43] وقوله تعالى: {هُنَالِكَ} الخ ابتداء كلام، وحينئذ فالولاية مبتدأ و{لِلَّهِ} الخبر والظرف معمول الاستقرار والجملة مفيدة للحصر لتعريف المسند إليه واقتران الخبر بلام الاختصاص كما قرر في {الحمد للَّهِ رَبّ العالمين} [الفاتحة: 2] وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون {هُنَالِكَ} خبر {الولاية} أو الولاية مرفوعة به و{لِلَّهِ} يتعلق بالظرف أو بالعامل فيه أبو بالولاية، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف وقع حالاً منها. وقال بعضهم: إن الظرف متعلق بمنتصراً والإشارة إلى الدار الآخرة، والمراد الإخبار بنفي أن ينتصر في الآخرة بعد نفي أن تكون له فئة تنصره في الدنيا. والزجاج جعله متعلقاً يمنتصراً أيضاً إلا أنه قال: وما كان منتصراً في تلك الحالة، و{الحق} نعت للاسم الجيل. وقرأ الاخوان. وحميد. والأعمش. وابن أبي ليلى. وابن منذر. واليزيدي. وابن عيسى الأصبهاني {الحق} بالرفع على أنه صفة {الولاية} وجوز أبو البقاء أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي أو هو الحق وأن يكون مبتدأ وهو خبره. وقرأ أبي {هُنَالِكَ الولاية الحق لِلَّهِ} بتقديم {الحق} ورفعه وهو يرجح كون {الحق} نعتاً للولاية في القراءة السابقة. وقرأ أبو حيوة. وزيد بن علي. وعمرو بن عبيد. وابن أبي عبلة. وأبو السمال. ويعقوب عن عصمة عن أبي عمرو {الحق} بالنصب على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة والناصب له عامل مقدر كما في قولك: هذا عبد الله حقاً، ويحتمل أنه نعت مقطوع. وقرأ الحسن. والأعمش. وحمزة. وعاصم. وخلف {عُقْبًا} بسكون القاف والتنوين، وعن عاصم {عقبى} بألف التأنيث المقصور على وزن رجعي، والجمهور بضم القاف والتنوين؛ والمعنى في الكل ما تقدم.
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)} {واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا} أي اذكر لهم ما يشبهها في زهرتها ونضارتها وسرعة زوالها لئلا يغتروا بها ولا يضربوا عن الآخرة صفحاً بالمرة أو اذكر لهم صفتها العجيبة التي هي في الغرابة كالمثل وبينها لهم. {كَمَاء} استئناف لبيان المثل أي هي كماء {أَنزَلْنَاهُ مِنَ السماء} وجوزوا أن يكون مفعولاً ثانياً لأضرب على أنه بمعنى صير. وتعقب بأن الكاف تنبو عنه إلا أن تكون مقحمة. ورد بأنه مما لا وجه لأن المعنى صير المثل هذا اللفظ فالمثل بمعنى الكلام الواقع فيه التمثيل. وقال الحوفي: الكاف متعلقة بمحذوف صفة لمصدر محذوف أي ضرباً كماء وليس بشيء. {فاختلط بِهِ نَبَاتُ الارض} أي فاشتبك وخالط بعضه بعضاً لكثرته وتكاثفه بسبب كثرية سقي الماء إياه أو المراد فدخل الماء في النبات حتى روى ورف، وكان الظاهر في هذا المعنى افختلط بنبات الأرض لأن المعروف في عرف اللغة والاستعمال دخول الباء على الكثير الغير الطارىء وإن صدق بحسب الوضع على كل من التداخلين أنه مختلط ومختلط به إلا أنه اختير ما في النظم الكريم للمبالغة في كثرة الماء حتى كأنه الأصل الكثير ففي الكلام قلب مقبول {فَأَصْبَحَ} ذلك النبات الملتف إثر بهجته ونضارته {هَشِيمًا} أي يابساً متفتتاً، وهو فعيل بمعنى مفعول، وقيل جمع هشيم وأصبح بمعنى صار فلا يفيد تقييد الخبر بالصباح كما في قوله: أصبحت لا أحمل السلاح ولا *** أملك رأس البعير إن نفراً وقيل هي على ظاهرها مفيدة لتقييد الخبر بذلك لأن الآفات السماوية أكثر ما تطرق ليلاً. وتعقب بأنه ليس في الآية ما يدل على أن اتصافه بكونه هشيماً لآفة سماوية بل المراد بيان ما يؤول إليه بعد النضارة من اليبس والتفتت كقوله تعالى: {والذى أَخْرَجَ المرعى فَجَعَلَهُ غُثَاء أحوى} [الأعلى: 4، 5] {تَذْرُوهُ الرياح} أي تفرقه كما قال أبو عبيدة، وقال الأخفش: ترفعه، وقال ابن كيسان: تجيء به وتذهب، وقرأ ابن مسعود {تذريه} من أذرى رباعياً وهو لغة في ذري. وقرأ زيد بن علي. والحسن. والنخعي. والأعمش. وطلحة. وابن أبي ليلى. وابن محيصن. وخلف. وابن عيسى وابن جرير {تَذْرُوهُ الريح} بالافراد، وليس المشبه به نفس الماء بل هو الهيئة المنتزعة من الجملة وهي حال النبات المنبت بالماء يكون أخضر مهتزاً ثم يصير يابساً تطيره الرياح حتى كأنه لم يكن، وعبر بالفاء في الآية للإشعار بسرعة زواله وصيرورته بتلك الصفة فليست فصيحية، وقيل هي فصيحية والتقدير فزها ومكث مدة فأصبح هشيماً {وَكَانَ الله على كُلّ شَىْء} من الأشياء التي من جملتها الانشاء والافناء {مُّقْتَدِرًا} كامل القدرة.
{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)} {الْمَالُ والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} بيان لشأن ما كانوا يفتخرون به من محسنات الحياة الدنيا كما افتخر الأخ الكافر بما افتخر به من ذلك إثر بيان شأن نفسها بما مر من المثل، وتقديم المال على البنين مع كونهم أعز منه عند أكثر الناس لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد وغير ذلك. وعمومه بالنسبة إلى الأفراد والأوقات فإنه زينة وممد لكل أحد من الآباء والبنين في كل وقت وحين وأما البنون فزينتهم وإمدادهم إنما يكون بالنسبة إلى من بلغ الأبوة ولأن المال مناط لبقاء النفس والبنون لبقاء النوع ولأن الحاجة إليه أمس من الحاجة إليهم ولأنه أقدم منهم في الوجود ولأنه زينة بدونهم من غير عكس فإن من له بنون بلا مال فهو في أضيق حال ونكال كذا في إرشاد العقل السليم، والزينة مصدر وأطلق على ما يتزين به للمبالغة ولذلك أخبره به عن أمرين وإضافتها إلى الحياة الدنيا اختصاصية، وجوز أن تكون على معنى في والمعنى أن ما يفتخرون به من المال والبنين شيء يتزين به في الحياة وقد علم شأنها في سرعة الزوال وقرب الاضمحلال فما الظن بما هو من أوصافها التي شأنها أن تزول قبل زوالها. وذكر أن هذا إشارة إلى ما يرد افتخارهم بالمال والبنين كأنه قيل: المال والبنون زينة الحياة الدنيا وكل ما كان زينة الحياة الدنيا فهو سريع الزوال ينتج المال والبنون سريعاً الزوال، أما الصغرى فبديهية وأما الكبرى فدليلها يعلم مما مر من بيان شأن نفس الحياة الدنيا ثم يقال: المال والبنون سريعاً الزوال وكل ما كان سريع الزوال يقبح بالعاقل أن يفتخر به ينتج المال والبنون يقبح بالعاقل أن يفتخر بهما وكلتا المتقدمين لا خفاء فيها. {والباقيات الصالحات} أخرج سعيد بن منصور. وأحمد. وأبو يعلى. وابن جرير. وابن أبي حاتم وابن مردويه. والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " استكثروا من الباقيات الصالحات قيل وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله " وأخرج الطبراني. وابن شاهين في «الترغيب». وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله هن الباقيات الصالحات وهن يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها وهن من كنوز الجنة " وجاء تفسيرها بما ذكر في غير ذلك من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن المنذر. وابن أبي شيبة عن ابن عباس تفسيرها بما ذكر أيضاً لكن بدون الذكر الأخير. وأخرج ابن أبي حاتم. وابن المنذر في رواية أخرى عنه تفسيرها بالصلوات الخمس، وأخرج ابن مردويه وابن المنذر. وابن أبي حاتم في رواية أخرى عنه أيضاً تفسيرها بجميع أعمال الحسنات، وفي معناه ما أخرجه ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن قتادة أنها كل ما أريد به وجه الله تعالى، وعن الحسن. وابن عطاى أنها النيات الصالحة؛ واختار الطبري. وغيهر ما في الرواية الأخيرة عن ابن عباس ويندرج فيها ما جاء في ما ذكر من الروايات وغيرها. وادعى الخفاجي أن كل ما ذكر في تفسيرها غير العام ذكر على طريق التمثيل، ويبعد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم وهن الباقيات المفيد للحصر بعد التنصيص على ما لا عموم فيه فتأمل، وأياً ما كان فالباقيات صفة لمقدر كالكلمات أو الأعمال وإسناد الباقيات إلى ذلك مجاز أي الباقي ثمرتها وثوابها بقرينة ما بعد فهي صفة جرت على غير ما هي له بحسب الأصل أو هناك مقدر مرفوع بالوصف مضاف إلى ضمير الموصوف استتر الضمير المجرور وارتفع بعد حذفه وكذا تدخل أعمال فقراء المؤمنين الذي يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه دخولاً أولياً فإن لهم من كل نوع من أنواع الخيرات الحظ الأوفر، والكلام متضمن للتنويه بشأنهم وحط قدر شانئهم فكأنه قيل ما افتخر به أولئك الكفرة من المال والبنين سريع الزوال لا ينبغي أن يفتخر به وما جاء به أولئك المؤمنين {خَيْرٌ} من ذلك {عِندَ رَبّكَ} أي في الآخرة، وهو بيان لما يظهر فيه آثار خيريتها بمنزلة إضافة الزينة إلى الحياة الدنيا لا لأفضليتها من المال والبنبن مع مشاركة الكل في الأصل إذ لا مشاركة لهما في الخيرية في الآخرة، وقيل: معنى عند ربك في حكمه سبحانه وتعالى: {ثَوَاباً} جزاء وأجراً، وقيل: نفعاً. {وَخَيْرٌ أَمَلاً} حيث ينال بها صاحبها في الآخرة ما يؤمله بها في الدنيا وأما المال والبنون فليس لصاحبهما ذلك، وتكرير {خَيْرٌ} للمبالغة، وقيل: لها وللإشعار باختلاف جهتي الخيرية.
|